الاثنين، 5 ديسمبر 2011

مضيفات الطيران .. وإثنا عشر ساعة برفقتهن ..!

عندما تصعد على طائرة لمدة إثنا عشر ساعة ، وتقرأ روايتين كاملتين وكتاب فلسفي ..!
فلابد أن تخطط في الرحلة المقبلة بطرق أخرى للترفيه ، خاصة عندما تكون رجلاً لا يحب الروتين ..!
إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل إمرئٍ ما نوى ..!
نحفظها ولكن لا نعمل بها في أغلب الأحيان ..!


عزمت في رحلة العودة على مشاهدة أربع أفلام على الأقل في الطائرة ..
ليس هذا فحسب ، بل حتى بعثرة الإقلاع والهبوط خططت لاستغلال وقتها بالاستماع للموسيقى ..
وضعت كتبي في الحقيبة المشحونة ، وكأنه عقاب لصديق وفيٍّ لم يسبق أن ولى الدبر في أوقات الضيق ..


شاهدت بالكرسي على يساري رجلاً كندياً صامتاً كالصنم ، وقد ناسبني وأسعدني هذا كثيراً ..
وضعت السماعات واخترت قائمة أغاني سيلين ديون ، تلك المغنية المفضلة لي ..
ربما هي الوحيدة التي استطاعت بصوتها كبح جماح الثائر في داخلي .. فأهدأ ..!
"My heart will go on" ..!!


"لا تتبع النظرة النظرة ، فإنها لك الأولى ، وليست لك الثانية" أو كما قال صلى الله عليه وسلم ..
وقعت عيني على فتاة سعودية غير محجبة ، وضعت حقيبتها على الكرسي بجانبي ..!
تابعت النظر عليها ، ولم أزل عيني لأن الثانية ستكون محرمة ..!
تحايل على دليل واضح ، وإتباع لذنب النظر المحرم ..!
ولكن من يستطيع أن يغفل عن جمال العربية ، وبالتحديد السعودية ..!
كل العيون الزرقاء ، والجلد الأبيض الأبرص ، والشعر الأصفر الصارخ .. تتهاوى أمام الأبيض والأسود الراقي ..!


بدأت رحلتي بذنب ..
وبدأت رحلتها بنذالة ..


طلبت من المضيف أن تغيّر كرسيها وتذهب بجانب صديقتها في الأمام ..
خمس دقائق من الفوضى ، سيلين تغني ، وأنا لا أسمع ولا أتابع إلا الأحداث ..
وأخيراً جلس بجانبي رجل ..


رائحته كرائحة قمامة جدة ..
منظره كأشعث إنهار عليه منجم ..
أنفاسه أعرفها جيداً ..
إنها أنفاس مرضى حوادث الحرس بالرياض في ساعات الفجر ..


كان كلامه معي كالرجل المترنح ، فلا هو اختار اليمين .. ولا مشى بالشمال ..!
اعتذرت منه وأخبرته أني أريد التركيز في الفلم ، ثم أكدت له أنني بوضع السماعات لا يمكنني سماعه ..!
تابع كلامه المتناثر في تجاهل كامل من جهتي ..
ثم أمسك بفخذي .. !!!
"يارجل ، سوف تكسر يدك إن فعلت هذا مرة أخرى"
قال لي "عضلاتك جيدة"


نظرت نظرة يأس وقلت في نفسي "تباً" .. إنها المرة الأولى في حياتي التي أقول هذه الكلمة من صميم قلبي !!


ثم أخرج زجاجة من بنطاله مليئة بالخمر .. وبدأ يشرب كالكلب ..!!
اتجهت لمؤخرة الطائرة .. جلست في كرسي المضيفات الكاسر للظهر لمدة إثنا عشر ساعة !!
لم أشاهد أفلاماً ، ولم أسمع موسيقى ، ولم أقرأ كتاباً ، ولم أراقب تويتر :)


ربما كان هذا عقاباً من الله سبحانه وتعالى ، وأنا أتقبله بنفس راضية جداً ..
لكنه بالتأكيد أيضاً كان درساً عظيماً ، فما شاهدته من المضيفات بالخلف كان فائقاً للوصف ..
المضيفة لا تقدر إلا أن تبتسم للجميع صغاراً وكباراً ، الفظ والمؤدب ..!
المضيفة لا تستطيع إلا أن تقول سمعاً وطاعة ، لكل طلب جديٍّ أو تافه ..!
المضيفة تهتم بالجميع كالأم ، وزادت بأنهم لا يعنون في الحقيقة لها شيئاً ..!


لها صفات الملائكة في الطاعة والنقاء ..!
لها عجائب الأم في الاهتمام والحنان والعطف ..!


فتلك امرأة تأتي برضاعة ابنها لتملأها ماء ساخناً ..
وذلك رجل يطلب المزيد من العصير ..
وذلك طفل يطلب حلويات من مخزن الطائرة ..


وفوق كل هذا تستجيب لنداءات الجهاز الخلفي من المسافرين العابثين ..
وتنظف الحمام بعد قاذورات المسافرين المهملين .. ويالها من فضلات ..
"ديناصورية" ..!! ذات رائحة صاروخية ..!!


أولئك المضيفات بعد كل هذا ، يمازحنني بقولهن "عليك باسترداد نصف ثمن التذكرة"
لم تبالي بأنها هي من تجلس على هذا الكرسي ..
لم تشعر باستغلالي لكرسيها وحرمانها منه ..
ولم تكترث وتكتئب عندما أهينت برجل يمسك مؤخرتها في منظر عجيب ..! "نعم هو نفسه الذي احتل الكرسي بجانبي وكرسيي"


عرفت من خلال حديثي معهن أن دورة اسعافات أولية هي إحدى طلبات القبول في وظائفهن ..
وكلهم يستطيعون عمل الإنعاش القلبي والرئوي الأساسي ، ولديهم شنطة إسعافات تفيد لو كان في الطائرة طبيب ..
وكلهم يوقعون على شرط وهو عدم الزواج طيلة خمس سنوات من العقد ..


صحيح أن ظهري كُسر من كرسيها السيء ..
لكني تعلمت الكثير ، واستمتعت بالحديث كثيراً ..
والمطبخ كان بالنسبة لي ، كأنه بيتي وثلاجتي ..
أكلت وشربت منه كل ما أريد ..


دون طلب مني ..
أحضرت إحداهن لي كوباً من القهوة ..
وأحضرت أخرى كأساً من الشاي ..
وأهدتني ثالثة كعكاً من سلتها الخاصة ..
وأخيراً .. مجلة لقتل الوقت ..!


من أكثر السيدات المنهوبة حقوقهن ..
من أكثر الآنسات المهانات كرامتهن ..
هن المضيفات ..
ومع هذا يدرِّسن للإنسان اللبيب ..
أعظم درس في الحياة ..
الصبر .. والإبتسامة ..
ما أجمل ابتسامتكن ..!


الطريف في الأمر ..
أن الفتاة السعودية لم ترد الجلوس بجانبي ..
وأنا أحفظ القرآن وأصلي صلواتي الخمس ..
وصديقتها لم تبالي أبداً بالجلوس بجانب ذلك السكير ..!!


أشرقت الشمس وأنارت خلفية الطائرة في منظر خلاب من النافذة الخلفية ..
وكابتن الطائرة ينادي بالجلوس وربط الأحزمة فقد حانت لحظة الهبوط ..
تأملت المنظر وأشعة الشمس المخترقة للسحاب في لوحة رائعة ..
تذكرت الفتاة السعودية ..
ابتسمت ..
ثم عزمت .. أن أتابع الشروق دائماً ، حتى أراه ابتدأ من الغرب ..!



هناك 11 تعليقًا:

  1. جميل جداً ,
    أحب التأمل العميق واستنطاق المواقف بـ دروس وعِبر يغفل عنها الكثير ..

    لك أسلوب جذاب ومشوّق , واصل إبداعك (:

    ردحذف
  2. مقال يعكس مستوى تفكير صاحبه .. تفكير منطقي+احساس مرهف ..وأكثر مالامسته في مقالك التواضع والرحمه وأيضا لاتخلو من روح الدعابه .. مبدع كعادتك .. وياعيني عالمضيفات :)

    ردحذف
  3. لو قلت لك أنك أدهشتني فـ أنا لم أتقن إختيار اللفظ المناسب/ فما فعلته مقالتك أكبر ...!
    :/
    لروحك دعوة ^^

    ردحذف
  4. جعلتنا نرحم أولئك المضيفات، وهن من رضين أن يعملوا عملاً لا يجوز لهن شرعاً، أسلوبك جميل في الكتابة، لكن عطفك في غير محلة، هداهن الله وستر علينا جميعاً.

    ردحذف
  5. أقحمتنا في احساسك الداخلي وفي تفكيرك وفي محيطك الخارجي فجعتلنا نشعر بعذوبة المشاعر وبقوة الحجة في الفهم وبالثورة على واقع مزري ...نقلتنا بين ارجاء الطائرة وكذلك النفس البشرية ونقلت صورة الملائكة وصورةالشيطان والضعف والقوة والحب والهوى كله بين جنبيك بين الحنين والشوق والتعلق بابناءالوطن وخاصة ببنت البلد في رمزية للاصالة والدين والجمال في نظرك....امتعتنا واضحكتنا وتاثرنا وقدتنا ببساطة الى خبايا نفسك وما راودك في تلك الساعات....ورغم انك حافظ للقران ظللت تعبر عن احساس دفين ...عن حاجتك للمرأة... وليس أية امراة وذكرتنا ب"شطارة" الغفلة وتركيز "النظرة" وكأنك لم تعش خارجها وكأن قدرك أن تضعف وانت تدرك ثم تضعف وانت تصر او يتجاوزك المقود وكل ذلك لأنك بحاجةالى تلك المرأة التي تملؤ قلبك وعقلك وتملي عليك تحركاتك..فتتحدى تارة وتستسلم اخرى وتعترف ثالثة في ابداع حاجة الفرد لربه....أتمنى أن تواصل مشوارك في الكتابةتحمل في نفسك كل مهارات الابداع موفق والى الامام مو بزنقة زنقة ...أمل ونجاح واحساس وفرحة..جراحة وتضميد في شاعرية ورقةالنفس البشرية..لا يتنافى الادب مع الطب حتى لو كان في غرفة العمليات...L.H

    ردحذف
  6. تبارك الرحمن ؛ البعض وليس الكل ينظر للمضيفه  بنظره تتخللها الشوائب ولكن أنتْ أوضحت لنا دورها المهم الذي يهمشهُ الأغلب،
    وعجباً لألئك الذين يستحيون من أبناء جلدتهم ولا يبالون بِالغريب" النجس ...
    أسلوب أخاذ ف الكتابه و الوصف ؛ بالتأكيد سأكون بالقرب لأتربص لحُروفك الممتعه ..

    طموح مُغْتَرب (:

    ردحذف
  7. أسلوب رائع .. جذاب وتسلسل رهيب .. تحرِّك الكلمات كيف ما تشاء .. إنت عملة نادرة .. لم أعلم عنك يوما ولكن ستكون في مفضلتي دوما ... تقبل ودي واحترامي

    ردحذف
  8. كل ما في المقال بنطق بالروعة والبساطة
    اسلوبك ، كلماتك، شخصيتك ، أفكارك ، كلها تدل على روعة قلبك قبل قلمك
    ابدعت و ابدعت
    اكثر ما أعجبني تلك النزعة الإيمانية التي لمستها فيك
    بل يكفي انك من حفظة كتاب الله
    الى الامام يا ابن الوطن

    ردحذف
  9. أشكركم جميعا على تعليقاتكم التي لولاها لما كان هذا الموضوع ذو أهمية أبدا
    أنا أكتب لكم وبدونكم لا يسمعني أحد
    شكرا لكم جميعا

    وهناك موضوع آخر بالقريب العاجل وسينال إعجابكم بإذن الله
    أخوكم :)

    ردحذف
  10. بالبداية قلت في نفسي : ايش هالرحلة اللي كلها شقا؟! :( ولكن بالاخير شعرت ان الوضع (زان لك) !! المضيفات اعتقد انهن الاوفر حظاً لكونك رفيقاً لهم مدة ١٢ ساعة ؛) صاحب اسلوب جميل وطريف وووو مدري :)


    أبدَعتَ فأمتَعْت ...

    موفق اخي الكريم ...

    ردحذف
  11. شكرا لتعليقك يا عبير

    وأتمنى زيارتك لموضوعي الجديد

    :)

    ردحذف